مختارات:
| 2 التعليقات ]

بقلم: رشا فرحات
كتبه المسطرة فوق رفوف غرفته القديمة، ثياب تخرجه، جامعته التي نسى بوابتها العظيمة التي خرج منها بلا عودة منذ ثلاثين عاما ماضى، ماض تركه خلفه بغبار أوجاعه التي ما زالت تغلف قلبه حتى اليوم، كل تلك الصور تعود اليوم ، لتنبش في حقيبة من الماضي أغلقها مرغما ووضعها في جزء بعيد من الذاكرة لا يقوى على الاقتراب منها لكي لا يبكي مثل طفل صغير فارق أمه لتوه دون رجعه، صور كثيرة تمثلت في جسد هذا المريض الممدد بين يديه، منتظرا مشرطه الذي يقبل إلى صدره ليسير عليه بأنامل هذا الطبيب المبدع ..لكنه صدر غريمه هذه المرة..أستاذه القديم..أستاذ الذكريات المريرة..ذلك القدر الذي غير حياته بكلمة منه..
وقف على رأس السرير الذي يحمل أستاذه ، كم كان طوال الثلاثين سنة السابقات جراحا مبدعا تقف على بابه ألاف الحالات المرضية المزمنة، فيضع الله في يديه ألف سبب للشفاء، مشرطه سحري كما يقول عنه جراحو القلب في باريس، فمثله نادر الوجود، يعزف أثناء إجراء أي عملية على جسم مريضه وكأنه يعزف على قيثارة، يعشق عمله، بل يتفاني من اجله، لا يرفض أي حالة مهما وصل به التعب أو الإرهاق، وقد يصل به الحال إلى البقاء في غرفة العمليات حتى ساعات الفجر الأولى..
نظر إلى الجسد المرهق المستجدي والممدد تحت يديه منذ نصف ساعة، دخوله إلى غرفة العمليات هذا اليوم ليس دخولا عاديا، فكأنها لحظة رسمها في مخيلته تماما كما يراها اليوم، يردد ( اللهم لا شماتة) في محاولة لطرد هواجس الشيطان القابع فوق رأسه، تمشي يده على صدر مريضه الجديد القديم، في اهتمام مختلف هذه المرة، التفاصيل الدقيقة، التعقيم، الممرضين، كل شيء يجب أن يكون متقدا واعيا لما يدور، الخطأ ممنوع، الخطأ في نظره اليوم جريمة، فيجب أن يقوم هذا المريض ويصحو ليعلم من هو طبيبه وعلى يد من قد تم شفاؤه، يعود بذاكرته إلى الوراء إلى ما قبل ثلاثين عاما، يوم كانت تتقد بداخله طموحات الطب، يوم رمى رئيس القسم المريض القابع بين يديه الآن أوراقه في وجهه وقال له: ما هذا الكلام الفارغ، هذا الكلام يمكن تطبيقه في المريخ، اذهب إلى محاضرتك.
تلقفته جامعات فرنسا بلهفة وامتنان لمرسليه الذين أعطوه لهم على طبق من فضة، كم هي مضحكة هذه الأقدار، هل هو جهل منهم، بات لعبة بأيديهم، هناك فشلة رموه عند أول مفترق لأنهم يخشون نجاح احد غيرهم، وهنا قوم آخرون يريدون أن يسلبوه عبقريته ليرموه في النهاية من يدري..
ها هو يصبح اليوم رئيسا لقسم جراحة القلب في اعرق مستشفيات باريس، وقد كان يتمنى أن يحقق هذا الحلم في ارض وطنه، وبين أهله، ثمن النجاح بات باهظا جدا، بعد وتغريب عن الأهل، ولباس خلعه منذ سنين، ليلبس لباسا أخر ليس بقياسه مهما توفرت المقاسات، وطن فقير يقتل الأحلام، وغربة رفعته إلى اعلي المقامات، ولكنه يعشق الفقر، فللفقر في الوطن رائحة يهواها عشاقها..
وذلك الذي رفضه بالأمس ينام بين يديه اليوم، طمعا بلحظة عطف، أو خيط معقم تخيطه يديه فيبرأ هذا الألم الذي لم يفارق جسده منذ سنوات.
يصحو مريضه من غيبوبته، ينظر إلى وجهه بامتنان، يتذكر.. يمعن في الذكريات، يبحث لنفسه عن عذر، يأمل في أن يسامحه،،يحاول الحركة فتسنده يدا ذلك الملاك الأبيض، يرتكز محدقا إلى عينيه، ويقول بنبرة بلهاء: كنت أعلم انك ستصبح يوما ذا شأن عظيم.

2 التعليقات

غير معرف يقول... @ 10 أبريل 2011 في 1:31 م

تحياتي، سعدت جدا حينما رأيت قصتي من باب الصدفة منشورة في مدونتك، يسعدني أن تكون من الزائرين لمدونتي
تحياتي وشكري
رشا فرحات

Unknown يقول... @ 14 أبريل 2011 في 11:50 م

اهلا وسهلا بكي أختي رشا
باذن الله تعالي بارك الله فيكي
..

إرسال تعليق